الشيخ الجيلالي امتيرد: مجدد ديوان الملحون مع الشرح المفصل
الشيخ الجيلالي امتيرد: مجدد ديوان الملحون مع الشرح المفصل
مقدمة: من هو الجيلالي امتيرد؟
عندما يُذكر شعر الملحون في المغرب، تبرز أسماء لامعة كالأعلام، ومن بين هؤلاء الأعلام يسطع نجم الشيخ الجيلالي امتيرد (1882-1944)، الذي يُعتبر بالإجماع أحد أكبر شعراء هذا الفن في القرن العشرين، ورائد مدرسة مراكش بلا منازع، والمجدد الذي نفخ روحاً جديدة في جسد هذا التراث العريق.
لم يكن امتيرد مجرد ناظم للقصائد، بل كان فيلسوفاً شعبياً، وحكواتياً بارعاً، ورساماً بالكلمات، استطاع أن يلتقط جوهر الحياة المراكشية ويعبر عنها بلغة تجمع بين جزالة التعبير وعمق المعنى وبساطة الوصول إلى القلوب. من خلال قصائده الخالدة مثل "الشمعة"، "الساقي"، و"الغزال"، لم يصف امتيرد مشاعره الخاصة فحسب، بل وصف مشاعر جيل بأكمله، ووثق لزمانه وعصره، وترك بصمة لا تُمحى في ديوان الشعر المغربي.
في هذا المقال المفصل، سنغوص في عالم هذا الشاعر الفذ، نستكشف سيرته وحياته، ونحلل خصائص أسلوبه الشعري، ونتعرف على أهم قصائده التي لا تزال تُغنى وتُروى حتى يومنا هذا، لنكتشف معاً لماذا استحق لقب "مجدد ديوان الملحون".
سيرته الذاتية ونشأته
المولد والنشأة في قلب مراكش
وُلد الشيخ الجيلالي امتيرد حوالي عام 1882 ميلادية (1299 هجرية) في قلب المدينة الحمراء مراكش، وتحديداً في حي "عرصة لهيري". نشأ في بيئة شعبية أصيلة، تشبع فيها بروح المدينة الصاخبة، بحرفييها وتجارها، بحلقات الحكي في جامع الفنا، وبمجالس العلم والذكر في زواياها ومساجدها. هذه البيئة الغنية كانت بمثابة المدرسة الأولى التي صقلت موهبته وشكلت وجدانه.
الحرفة والتكوين
امتهن الجيلالي امتيرد حرفة "الخراجة" أو "الطرازة" (تطريز وخياطة الملابس التقليدية)، وهي حرفة تتطلب دقة وصبراً وذوقاً فنياً رفيعاً. ويبدو أن هذه الحرفة قد انعكست على شعره، فقصائده تشبه إلى حد كبير قطعة قماش مطرزة بعناية، كل كلمة فيها وكل صورة شعرية موضوعة في مكانها الصحيح بدقة متناهية.
لم يتلقَ امتيرد تعليماً نظامياً عالياً، بل كان تكوينه عصامياً، يعتمد على ما يحفظه من القرآن الكريم، وما يستمع إليه في مجالس العلم والأدب، وما يقرأه في دواوين الشعر القديم. لكن مدرسته الكبرى كانت هي الحياة نفسها، وتجاربه الشخصية، واحتكاكه بمختلف طبقات المجتمع المراكشي.
شخصيته وطباعه
تصف الروايات الشفهية والمصادر التاريخية الشيخ الجيلالي امتيرد بأنه كان رجلاً ذا شخصية قوية، عفيف النفس، كريماً، ومحبوباً من الجميع. كان معروفاً بظرفه وخفة روحه، وسرعة بديهته، وقدرته على نظم الشعر ارتجالاً. كان مجلسه لا يخلو من الأدباء والشعراء وعشاق فنه، الذين كانوا يتوافدون على دكانه للاستماع إلى جديد قصائده والاستمتاع بجمال لغته.
ورغم شهرته، عاش حياة بسيطة ومتواضعة، بعيداً عن أضواء القصور والسلاطين، مفضلاً البقاء قريباً من الناس ومن نبض الحياة الشعبية التي استلهم منها معظم شعره. توفي رحمه الله في مسقط رأسه مراكش عام 1944، تاركاً وراءه ديواناً شعرياً خالداً لا يزال يمثل منارة من منارات فن الملحون.
الأسلوب الشعري والخصائص الفنية
يعتبر الجيلالي امتيرد مجدداً حقيقياً في فن الملحون، حيث استطاع أن يطور هذا الفن ويضيف إليه أبعاداً جديدة دون أن يفقده أصالته وهويته الشعبية. يتميز أسلوبه بعدة خصائص:
1. لغة تجمع بين الفصيح والعامي
أبدع امتيرد في استخدام "لغة وسطى" تمزج بسلاسة مدهشة بين المفردات الفصيحة الجزلة والتراكيب البلاغية الراقية، وبين اللغة العامية المراكشية الدارجة بكل ما تحمله من عفوية وصدق وقرب من الناس. هذا المزج جعل شعره مفهوماً ومحبوباً من العامة، وفي نفس الوقت محط إعجاب وتقدير الخاصة من الأدباء والنقاد.
2. قوة الوصف والتصوير
يمتلك امتيرد قدرة فائقة على الوصف والتصوير الحسي. عندما يصف مجلساً أو حديقة أو امرأة، فإنه لا يكتفي بالوصف الخارجي، بل يرسم لوحة فنية متكاملة بالألوان والأصوات والروائح والحركة، مما يجعل القارئ أو المستمع يعيش التجربة بكامل حواسه. قصيدته "العرصة" مثال ساطع على هذه القدرة، حيث يحول الحديقة إلى كائن حي ينبض بالجمال والحياة.
3. عمق المعنى والحكمة
لم يكن شعر امتيرد مجرد غزل ووصف، بل كان يحمل في طياته حكماً عميقة وتأملات فلسفية في الحياة والموت والحب والزمن. قصيدته "الشمعة" تعتبر من أعمق ما قيل في الملحون، حيث يستخدم رمز الشمعة التي تحترق لتنير للآخرين للتعبير عن معاناة الفنان وتضحيته من أجل فنه.
4. التجديد في المواضيع والأغراض
على الرغم من أنه نظم في الأغراض التقليدية للملحون كالغزل والمديح، إلا أن امتيرد استطاع أن يطرق مواضيع جديدة ويعبر عنها بأسلوب مبتكر. قصيدته "الساقي" مثلاً، هي عبارة عن حوار مسرحي متكامل بين شخصيتين، وهو شكل فني لم يكن مألوفاً بنفس الدرجة من النضج في الملحون قبله.
5. البناء المحكم للقصيدة
تتميز قصائد امتيرد ببنائها المحكم والمتماسك. هو يتقن فن "الحربة" (اللازمة) و "القسم" و "الصياح"، وينتقل بين أجزاء القصيدة بسلاسة ومنطق، مما يعطي لقصائده وحدة عضوية قوية تجعلها سهلة الحفظ والإنشاد.
أشهر قصائده: نماذج خالدة
ترك الشيخ الجيلالي امتيرد ديواناً غنياً بالقصائد التي أصبحت من كلاسيكيات فن الملحون. من أشهر هذه القصائد:
1. قصيدة "الشمعة"
تعتبر هذه القصيدة درة ديوان امتيرد وواحدة من روائع الشعر الإنساني. يخاطب فيها الشمعة، ويقيم حواراً عميقاً معها حول معاني التضحية والفناء من أجل الآخرين. يقول في مطلعها:
"مَا لَكْ يَا شَمْعَة الْقَنَادِيلْ بَاكِيَة بَدْمُوعْ هَطْلَا / قَالْتْ حَالِي لِلْعَاشَقْ مَثِيلْ نَبْكِي وَ دْمُوعِي سَايْلَا"
القصيدة هي مرثية للذات، وتعبير عن ألم الفنان الذي يحترق كالشمعة لينير دروب الناس، لكن لا أحد يشعر بألمه ومعاناته.
2. قصيدة "الساقي"
هي قصيدة حوارية بديعة تدور في مجلس أنس بين الشاعر والساقي. يرى الشاعر الساقي مهموماً، فيحاول مواساته، لكن الساقي يكشف عن جراح حب عميقة لا يدركها إلا من عاناها. القصيدة تمزج بين وصف مجالس الطرب، ولوعة الحب، والحكمة.
"رَاحْ اللِّيلْ اوْعَلـْمْ الفـْجَــرْ تـَاڭ الصُـبْـحْ الرَّاقِـي (آ السَاقِي) / دُورْ اعْـلىَ الحَـضْـرَا بْـفـَـنـْجْـلـَكْ تـَـزيَـانْ المُوسِيـقا"
3. قصيدة "الغزال"
وهي من أشهر قصائده الغزلية، يصف فيها جمال فتاة اسمها "فاطنة" وصفاً حسياً دقيقاً، ويشكو من صدها وهجرانها. تعتبر هذه القصيدة نموذجاً للغزل العذري في الملحون.
4. قصائد أخرى
بالإضافة إلى ما سبق، له قصائد أخرى مشهورة مثل "العرصة"، "الحجام"، "الخيل"، و "الضادية"، وكل واحدة منها تمثل تحفة فنية في بابها.
تأثيره وإرثه الخالد
مجدد الملحون ورائد مدرسة مراكش
يُجمع الباحثون والنقاد على أن الجيلالي امتيرد هو "مجدد" حقيقي لفن الملحون. لم يكتفِ بالمحافظة على الأشكال التقليدية، بل طوّرها وأضاف إليها من روحه وإبداعه. استطاع أن يرفع من شأن اللغة العامية ويجعلها قادرة على التعبير عن أعمق المشاعر والأفكار، مما جعله بحق رائد مدرسة مراكش في الملحون، والتي تتميز بالتركيز على قوة الوصف وعمق الحكمة.
تأثيره على الأجيال اللاحقة
كان تأثير امتيرد كبيراً على الأجيال التي أتت بعده من شعراء ومنشدي الملحون، ليس فقط في مراكش بل في المغرب كله. أصبح أسلوبه مدرسة يُحتذى بها، وقصائده أصبحت جزءاً أساسياً من ريبرتوار الحفاظين والمنشدين. كما أن تأثيره امتد إلى فنون أخرى، حيث استلهم الكثير من فناني "الشعبي" في الجزائر والمغرب من قصائده وألحانه.
حفظ التراث
رغم أن الكثير من شعر الملحون يعتمد على الرواية الشفهية، إلا أن ديوان الجيلالي امتيرد قد حظي باهتمام كبير من الباحثين الذين عملوا على جمعه وتدوينه وتحقيقه. من أبرز الجهود في هذا المجال عمل الأستاذ "أحمد سهوم" الذي جمع وحقق ديوان الشاعر، مما ساهم في حفظ هذا التراث القيم من الضياع وإتاحته للدارسين والباحثين وعشاق هذا الفن.
في الختام، يظل الشيخ الجيلالي امتيرد قامة شعرية شامخة، وصوتاً فريداً في تاريخ الأدب الشعبي المغربي. هو الشاعر الذي استطاع أن يمزج بين بساطة التعبير وعمق الفكرة، وبين جمال الوصف وقوة الحكمة، ليخلق شعراً خالداً لا يزال يلامس القلوب ويثير المشاعر حتى يومنا هذا.
المصادر والمراجع
- مقالة "الجيلالي امتيرَد.. مُجدِّد ديوان الملحون المغربي" - جريدة هسبريس الإلكترونية.
- كتاب "معلمة المغرب" - إشراف محمد حجي.
- أبحاث ودراسات الدكتور عباس الجراري حول الشعر الملحون.
- ديوان الشيخ الجيلالي امتيرد - تحقيق أحمد سهوم.
- تسجيلات صوتية وقراءات متعددة لقصائد الشاعر من قبل كبار المنشدين المغاربة.
هذا العمل الأدبي يقع في الملك العام. موقع "البقراج" يقوم بجمع وحفظ ونشر هذا التراث الشعبي مع إضافة قيمة تحليلية ومعرفية له.
نشر وتحقيق: الفنان الشعبي أكرم ليتيم